Monday, September 2, 2013

الأمانة في القليل



في بداية الستينات (من القرن العشرين) كانت كنيستنا في اسبورتنج تحتضن الشبان المغتربين الذين يدرسون في الجامعة ... وكان أبونا بيشوي يوليهم إهتماما خاصا من جهة السكن والتدابير المعيشية ... ولا سيما المحتاجين منهم ...

ويلحق الكثيرين منهم بالخدمة في مدارس الأحد ... ويعتبر أنه إذا رباهم في الروح فإنهم يكونوا كالخميرة الصغيرة عندما يعودون إلى بلادهم ... أو حينما يتخرجون ليحيوا شهودا لعمل نعمة المسيح حيثما ذهبوا ... وقد بارك الرب هذا الفكر ... وجاءت ثمار هذه الخدمة وفيرة وغزيرة ... وقد تكرس كثير من هؤلاء الشبان ومازال الكثير منهم يذكر تلك الأيام بكل خير ...

من بين هؤلاء الشبان كان يوجد شاب في كلية الهندسة ... قسم الميكانيكا ... وكان هذا الشاب متدينا عميقا في تدينه ... مدققا في سلوكه إلى درجة تفرح قلب الله ... وكان يتتلمذ على بابا صادق (سنورد سيرته فيما بعد - "الناسخ")... يذهب إليه بصفة منتظمة ... يسترشد بروحه وينهل من فيض النعمة التي كانت تتدفق بغنى في تعليمه وكلمة الحياة التي كان ينطق بها ...

كان هذا الأخ مجربا من جهة الدراسة ... فرغم أمانته في إستذكار دروسه وحضوره المنتظم في الكلية ... إلا أنه كان غير موفق في الامتحانات ... فتكرر رسوبه في السنة الثانية مرتين وأعطته الكلية فرصة أخيرة ليمتحن من الخارج ... وفي مثل هذه الأحوال يفصل الطالب إذا رسب ...

فكان والحال كذلك في وضع حرج وكان مستقبله مهدد وأمره كله معلق على نجاحه في هذه السنة ... فان نجح انتقل إلى السنة الثالثة وينفتح أمامه باب مستقبل مشرق كمهندس ... وإن رسب فانه يفصل من الكلية ويحاول الالتحاق باحدى الكليات النظرية ليبدأ المشوار من جديد ... وتضيع عليه السنوات الخمس التي قضاها في كلية الهندسة ... فكان جميع الأحباء والزملاء يرثون لحاله ... ويصلون لأجله ... ويشجعونه !!!

ولكن الحق يقال أن هذا الأخ أظهر ثباتا وشجاعة نادرة ... إذ كان قلبه ثابتا متكلا على الله ... فكان دائما بشوشا ... شاكرا ... مسلما الأمر لله في اتكال عجيب ... وهو يعمل بمثابرة بدون إرتباك وبدون أدني يأس أو شكوى أو تذمر ...

وكان مسلكه هذا يثير العجب في كل رفقائه لأن روح الثقة والفرح الذي كان يستمده في حياته من المسيح ... كانت تطغى على تصرفاته ... فكان مثلا حيا للنصرة على التجارب التي كان يتعرض لها السائرون في دروب الرب ...

وفي أحد أيام الامتحانات في آخر السنة خطر ببالي أن أفتقد هذا الأخ ... أطمئن عليه وأشجعه ... فذهبت إلى مسكنه ... فاستقبلني كعادته بوجهه البشوش ... ومحبته المسيحية ... جلسنا نتحدث عن أعمال الله ... وفتحنا الكتاب المقدس كعادتنا ... وصلينا المزامير ... ثم سألته عن حال الإمتحانات ... فقص عليّ كيف تمجد الله معه في ذلك اليوم !!!

قال: أنت تعرف الدكتور سرور – رئيس القسم ؟
قلت: أعرفه ...
إذ كنت وقتها أعمل معيدا في كلية الهندسة (في نفس الوقت الذي كان يعمل فيه أبونا لوقا كاهنا ... وهذه كانت حالة نادرة من نوعها – "الناسخ") ... فهو رجل طيب القلب علمه غزير وقد تتلمذ على يديه آلاف المهندسين ... والرجل مخوف ذو هيبة يخشاه الجميع ... ليس الطلبة فقط ... بل والمدرسين والأساتذة أيضا ... وهو رغم طيبة قلبه إلا أنه لا يعمل حسابا للألفاظ ... فقد يوبخ بشدة أو يعلو صوته بصرامة ... فكان كل واحد يعمل له ألف حساب ...

قلت له : هل كان عندك اليوم امتحان في مادة الدكتور سرور ؟ ...
قال : نعم ...
وكيف الحال ؟ ...
قال : كان الامتحان في غاية الصعوبة ...
انقبض قلبي عندما سمعت منه هذا الكلام ... وقلت لنفسي مسكين هذا الأخ ...
قلت : أرجو من الرب أن تكون قد جاوبت حسنا ... ومادام الامتحان صعب على الجميع فسوف يأخذ الدكتور هذا الأمر في الاعتبار ...
قال : فعلا ... هكذا ...
قلت : كيف ؟ ...
قال : الدكتور كان هو رئيس اللجنة في المراقبة ... فدخل ووجد الطلبة يشتكون من صعوبة الامتحان ... فكان يخرج هو والمراقبون خارج اللجنة بعض الوقت ... فكان يتسنى للطلبة أن يسألوا بعضهم أو يتبادلوا المعلومات ... وبعد قليل قال الدكتور : إيه يا أولاد ... مالكم ؟؟؟
فقالوا: الامتحان صعب جدا يا دكتور ...
فقال : اتصرفوا بينكم وبين بعض ...
قلت : إلى هذا الحد سمح للطلبة !!!
قال : وأكثر من ذلك ... فصارت اللجنة مثل السوق ...
قلت : وماذا فعلت ؟؟؟
قال : أصدقك القول إنني حصرت ذهني على قدر ما إستطعت ... ورحت أحاول في جميع المسائل ... وما إستطعت أن أكتبه كتبته ...
ولم ألتفت يمينا ولا يسارا ... فضميري لا يسمح أن آخذ ما ليس لي !!!
قلت : وماذا حدث ؟؟؟
قال : وقت الامتحان كان ثلاث ساعات ... أما أنا فبعد ساعة وثلث الساعة كنت قد كتبت كل ما أعرف ... وحاولت أن أتذكر كلمة واحدة بعد ذلك فلم أجد ... كانت هذه هي كل قدرتي وكل ما أعرف ...
قلت : وبعدين ؟؟؟
قال : شعرت أن جلوسي في اللجنة أصبح بلا قيمة ... بل إن روحي أصبحت غير مستريحة في هذا الجو ... قمت لوقتي وكان نصف الوقت تقريبا ... فلما رآني الدكتور واقفا ومتجها إليه لتسليم الورقة صاح في وجهي : ...
رايح فين ؟
قلت له : أنا خلصت ...
فأمسك الدكتور بالورقة وتصفحها كلها ... فرأى إجاباتي القاصرة ... ولا مسألة كاملة ... والخطوات القليلة التي كتبتها لا ترقى إطلاقا إلى درحة النجاح ...
فعاد الدكتور في نبرته الحادة يقول : ارجع كمل الاجابات ...
قلت : هذا كل ما أعرف يا دكتور ...
قال : ده مش هينجحك ... ده ضعيف جدا ...
قلت : ليس في ذهني أكثر من هذا ... وإلا فإني كنت قد كتبت ...
قال الدكتور : أدخل إتصرف مع زملاءك ...
قلت : مش قادر يا دكتور ...
صاح الدكتور بصوت أعلى : أنا بقول لك غش !!!
قلت : ضميري لا يستطيع ... صدقني يا دكتور !!!
فقال وهو يشتم : يا واد إنت منين ؟؟؟ إنت أصلك إيه ؟؟؟
قلت : أنا مسيحي يا بيه ...
قال : إلى هذا الحد ضميرك لا يسمح !!!
روح يا واد ... وأقسم بحلف أنه من أجل أمانتك هذه لابد أن تنجح ... وعلّم على الورقة في الحال ... وأعطاني أعلى من درجة النجاح !!!
وقبل أن تدخل الورقة الكنترول وقبل التصحيح ... نجحت !!!
إقشعر جسدي وأنا أسمع هذا الكلام ... ومجدنا الله العجيب الذي ينصف مختاريه ... وقمنا نصلي ونمجد ونسبح ونشكر ...

وقد إجتاز الأخ هذه السنة بنجاح ... وليس تلك السنة فقط ... بل وصارت أمانته هذه هي العلامة المميزة لحياته على مدى السنين ... فمبارك الله الذي لا يخيب المتكلين عليه !!!

منقول من كتاب : ...
المؤلف: جناب القمص/ لوقا سيداروس
الكتاب : رائحة المسيح في حياة أبرار معاصرين
الناشر : كنيسة مارجرجس باسبورتنج
(الجزء 3 صفحة 36 – 41)

No comments: