الصلاة الدائمة
صلوا كل حين ... صلوا بلا انقطاع .. كانت هذه الآيات هي محور الحياة في قصة السائح الروسي ...الذي قضى العمر كله في هذا الاختبار العجيب إذ صارت حياته كلها صلاة وصلاته كلها حياة ... فلا فصل بين الحياة والصلاة ... أما أنا فصلاة ... وقد ساعد السائح في هذا المجال أقوال الآباء الكبار قديسى البرية الذين كرسوا حياتهم في اختبار الصلاة وقد دوّنوا أقوالهم الحية في كتاب الفيلوكاليا . وهو من الكتب الروحية التي ترجم أبونا بيشوي كامل جزءاً منه . على أننا في حياتنا وسعينا في العالم قد لا نحرم من هذه المتعة إذا صار فينا هذا الاشتياق ...
إذا أخلصنا في التدرب على حياة الصلاة، وهذا ليس مستحيلا بل يحتاج إخلاص وصبر وممارسة .وقد كان أبونا بيشوي يعطي أولاده في الاعتراف تداريب على الصلاة الدائمة مثل صلاة يسوع ... ويحبب إليهم النطق بالإسم الغالي كثيرًا ومناداة اسم الخلاص الذي لربنا يسوع المسيح ...أو صلاة اللهم التفت إلى معونتي ... وكان يسميه مزمور النجدة وكان يسمي هذه الصلوات الصلاة السهمية .. أي أنها صلاة قصيرة ولكنها فعالة كالسهم السريع الحاد .وقد تدرب كثيرون من كل فئات الشعب إذ وَجَدوا في اسم الرب يسوع فعلاً برجًا حصينًا يركض إليه الصديق ويتمنع .
ومن المواقف التي لا تُنسى أذكرأننا كنا سويًا في سيارته ونحن في بعض الزيارات في منطقة الكنيسة،
وفجأة قال لي : هلم فأريك منظرًا جميلاً،
قلت له : أين؟
فأوقف سيارته، ثم أشار بيده إلى إحدى العمارات
وقال :انظر إلى البواب ... فلان هل تعرفه؟
قلت : نعم أعرفه ...
قال :هل ترى ماذا يفعل؟
فلما حققت النظر، وجدت البواب جالسًا أمام العمارة مطرقًا برأسه إلى أسفل،
فقلت لأبونا ماذا يفعل؟
قال لي إنه يصلي ... لقد تعلم الصلاة بالأجبية وهو يواظب عليها طول النهار والليل، يجلس أمام
باب العمارة يصلي ولاينشغل بشيء إلا بال صلاة ورفع القلب لله .
وجلسنا في السيارة ونحن نتحدث عن فاعلية الصلاة والتمتع بها مهما كان عمل الإنسان، فإنه لا يمكن أن يشغله عن الصلاة متى تعلق قلب الإنسان بها .
وفي أثناء ذلك علا صوت إحدى ساكنات العمارة تنادي البواب ليقضي لها طلبًا فوجدته للحال يرد عليها مجاوبًا و بكل وداعة وهدوء وضع الأجبية في جيبه وتطلع إلى مصدر الصوت ...أنزلت السيدة سلة من أعلى، فالتقط ما بها من نقود وانطلق يشتري لها ما أرادت ...
وقال لي أبونا أن جميع سكان العمارة والجيران والمحيطين يحبون هذا الرجل حبًا عجيبًا لكثرة أدبه وطاعته وسرعة خدمته وأمانته، وهم لا يعرفون أن مصدر الجاذبية هي حياة الصلاة الدائمة والصلة بالمسيح التي يحياها هذا الرجل البسيط بكل الصدق والإخلاص .
وقد تذكرت أيضًا زميل لي - وهو صديق عمري - كان يعمل معيدًا بالجامعة، وقد ملكت حياة الصلاة على كل مشاعره وأحاسيس قلبه فكان يلهج في ناموس الر ب نهارًا و ليلاً .وكان في أثناء تأدية عمله يشتاق إلى الصلاة، فكان كلما ملأ السبورة التي يشرح عليها للطلبه كلامًا، يرفض أن يقوم أحد الطلبة بمحو ما هو مكتوب عليها، ويصر أنه هو بنفسه يفعل ذلك، فيلتفت إلى ناحية السبورة، ويأخذ بيده "البشاورة " ويبدأ بمسح السبورة بنظام من أعلى إلى أسفل وفي خطوط متوازية وبهدوء شديد ...وكان الطلاب يعزون ذلك إلى شدة النظام وال نظافة التي يتحلى بها هذا الأخ والواقع أنه كان ينتهز هذه الفرصة لينال دقائق في صلاة عميقة يخرج بها من دائرة العمل ومن جدران الفصل ومن مباني الجامعة بل ومن حدود ال عالم المادي المرئي إلى أجواء الروح العليا ... لأن الذي اختبر قوة الصلاة يعلم أنها رفع العقل والقلب إلى الله، فالقلب والعقل يختطفا في لحظه إلى السماء، إذا كان الروح نشيطًا في الأنسان، ولا يحتاج الأمر إلى زمن، إذ أن الاستعداد إلى التحليق في الروحيات كائن ونار الروح متأججة لا تنطفيء .
ورأيت في حياتي مثلاً آخر لحياة الصلاة بلا تكلف ... فحين تصدر الصلاة طبيعية تصير كلازمة من لوازم الحياة ... تكون مثل التنفس للجسد فهي تحدث بصورة تلقائية عفوية دون تغصب أو أجتهاد ودون تمثيل أو محاولة للتقليد .
أعرف سيدة في المسيح، عاشت الحياة المسيحية غاية في البساطة والعمق في آن واحد، وقد كنت أتردد على منزلها كثيرًا، إذ تربطني بها صلة قرابة وثيقة .. كنت أراها وهي في مطبخ منزلها، الذي
كانت تقضي فيه ساعات طويلة تخدم أسرتها بكل الحب والاتضاع والبذل ...تلبس " مريلة " فوق ملابسها وفي جيب المريلة توجد الأجبية ...
فكل ما تحين لها فرصة أثناء عمل المطبخ ولو إلى دقائق تخرج أجبيتها وترفع قلبها بالصلاة ولو مزمور واحد ... وهكذا كانت كل الأيام ...وكنت أتباسط معها الحديث وأقول الأكل حلو لأنه معمول بالمزامير ...فكانت في اتضاع وخجل تقول
مزامير إيه بس واحنا بنصلي إيه وفين الوقت اللي بنقضيه مع رينا ...
دا الواحد مكسوف إنه بينشغل بالحاجات دي ...
والواقع أنه لم يكن شيء ليشغلها عن الصلاة والقراءات والحياة الهادئة، فهي وإن كانت بحسب الظاهر كمثل مرثا تعمل الخدمات الكثيرة ولكنها حازت قلب مريم المصلية الهادئة التي اختارت النصيب الصالح الذي لن يُنزع منها.
ومن الأمور التي شهد بها جميع عارفيها أن حياة الصلاة الحقيقية قد طبعت عليها لونًا من الوداعة عجيب، في هدوء صوتها الخفيض الذي لم أسمعها غاضبة أو مرتفعة الصوت أو محتدة، بل في
هدوء الملائكة عاشت أيام السماء على الأرض وقد زانتها حياة الصلاة بزينة الروح القدس الوديع الهاديء الذي هو قدام الله كثير الثمن حتى
انطلقت إلى المجد، وعبرت كعبور النسيم الهاديء .
.................................................
منقول من : ...
المؤلف : جناب القمص/ لوقا سيداروس
الكتاب : رائحة المسيح في حياة أبرار معاصرين
الناشر : كنيسة مارجرجس باسبورتنج
الجزء : الثالث
No comments:
Post a Comment