من أمثلة الأمانة العجيبة والتدقيق ما رأيته في أحد الأسا تذة في كلية العلوم وهو رجل كان مشهودًا له بعلمه في كل الأوساط ومعروفًا بأدبه الجم وخلقه الكريم، شخصية مسيحية بالدرجة الأولى، لم ينطق لسانه كلمة نابية ولم يعرفه أحد إلا جادًا وديعًا مجاملاً محتملاً ... ولم يره أحد قط غاضبًا أو رافعًا صوته ...
كان بين الكل كرائحة زكية وكانت حياته كجدول مياه يجرى في هدوء، يروى ويسقي والكل ينعم به. كانت هذه السيرة الحية سبب حياة كثيرين، جذبت نفوسًا متغربة كان في حكمة وبساطة ينصح تلاميذه للحياة الأفضل وكان سلوكه أكبر شاهد يثبت قوله ويؤازره صدق كلامه .
جاءني في بداية السبعينات - شاب في العشرينات من عمره - كان يسكن بجوار الكنيسة ولكنه كان بعيدًا عنها في ذات الوقت . تعب معه خدام كثيرون وعبثًا حاولوا أن يردوه عن طريق غيّه ...زاره أبونا بيشوي مرات، وكان الشاب يراوغ، ويعد ولا يفي وأخيرًا كان يتهرب من أبونا بيشوي ...وفي مثل هذه الحالات كان أبونا يلجأ للصلاة التي كانت تقتدر كثيرًا .
جاءني الشاب وكنت قد انتهيت من اجتماع الشباب وجلست أتلقى الاعترافات وجلس إلى جواري وقال :أنا أريد أن أتوب . كم فرحت لمجرد رؤية هذا الشاب راجعًا، ونيته الصادقة للتوبة وتغيير الحياة .
قال :منذ أيام أقلعت عن التدخين، وتركت كل رفقة السوء، بنية صادقة وعزم أكيد، وأرجوك أن تساعدني في أن أسير في طريق توبتي ...علمني كيف أقرأ الإنجيل وعلمني أن أصلي .
وبعد أن سمعت اعترافًا صادقًا بدموع غزيرة وقرأت له التحليل، وأنا في غاية التأثر سألته من باب الفضول :
ماذا دفعك بهذا الدافع القوي لبداية الحياة مع المسيح، هل سمعت عظة مؤثرة؟
قا ل :لا ...
هل ذهبت إلى أحد الأديرة أوتقابلت مع أحد الآباء؟
قال :لا .
هل سمعت عن مرض أحد أو فقد أحد الأحباء؟
قال : لا
قلت ماذا إذن؟
قال : منذ بداية السنة الدراسية والأستاذ الدكتور فلان يدرس لنا، وقد أسرني أنا وغيري بأخلاقه العالية وكنا جميعًا نُجِلّ الرجل و نحترمه .ومنذ أيام وفي أثناء المحاضرة، لفت الأستاذ نظر أحد الطلبة أن ينتبه، وهذا الطالب بالذات شاذ في سلوكه عنيف غاية العنف ومتعصب جدًا و كل واحد يتجنب الاحتكاك به أوحتى الاقتراب منه ...
وكان الأستاذ يتكلم إليه بلطف شديد وأسلوب مهذب ...
ونفاجأ ببركان ثائر من الطالب غير المهذب، انهال على الأستاذ سبابًا
وشتائم، وبأسلوب غبي تطاول على المسيحية، وحوّل الأمر بدون مقدمات إلى احتكاك ديني ... شيء مذهل كهرب جو المدرج كله والدكتور واقف صامت، لم تتغير ملامح وجهه ولا اضطرب من الشتائم ولم يعلق بكلمة واحدة، بل في هدوء عجيب قابل هذا الهيجان المضطرب، ..
هاج المدرج، صياح هنا وهناك وطلبة مسلمين قاموا يعارضون الطالب وكادوا يشتبكون بالأيادى ...وهنا وجدت الدكتور يمسك بالميكروفون وفي حزم جاد أعاد السكون للمدرج .
ثم قال مخاطبًا الطالب ...يا ابني أنا متأسف إذا كنت قد أزعجتك حين لفتُّ نظرك إلى الانتباه إلى المحاضرة ... ولكن صدقني انا أقصد مصلحتك .أما أنا كوالد فلابد أن أحتمل أولادي حتى في ساعات الغضب، وما يربطني بكم هو رباط أب لأولاده أكثر من رباط محاضر وتلاميذ
وأنا من حقي كأستاذ أن أحاكمك على هذا الفعل وأستطيع ذلك وأكثر ولكن من واجبي كأب أن أحتملك وأغفر لك، وأنا أحب أن أكون أبًا أكثر من أن أكون أستاذًا . ..
ولدهشة الجميع وجدنا هذا الطالب يجري نحو الأستاذ ويحاول أن يقبّل قدمه
ويقول :سامحني يادكتور أنا غلطان وأنت ماتستاهلش شيء وحش .
وأقامه الدكتور محتضنًا إياه يقبله ويقول كلكم أولادي وأنا باحبكم ...
ودوى المدرج بالتصفيق ...وأكمل الأستاذ المحاضرة بعد أن ترك فينا أثرًا عميقًا .ساعتها قلت في نفسي هذه هي الحياة الفضلى وأنا لابد أن أعيشها، هذه هي الحياة بالمسيح وغيرها لا يسمى حياة ...ومن ساعتها عزمت على الحياة بالمسيح وقررت التوبة والاعتراف إذ عاينت قوة الحياة المسيحية وكيف تتغلب على شر الأشرار .
قلت له يا ابني هكذا الشهداء الأبرار شهود المسيحية كانوا يجتذبون بصبرهم على الآلام وغفرانهم حتى للذين عذبوهم وآذوهم. كانوا يحوّلون الوثنيين إلى الإيمان بالمسيح .فما أقوى حياة الشهادة للمسيح وما أعظم أثرها .
وقد عاش هذا الرجل البار مشهودًا له في جيله، أي من الكنيسة ومن الذين هم من خارج ...وقد أكمل سعيه الصالح عائشًا بالكمال المسيحي وكان بيته بالحق كنيسة مقدسة هو وزجته كانا بارين ولم يكن لهما ولد ...
ولما رقد في الرب وكنا في بيته قال ليّ أحد زملائه الأقربين الذين عاشوا معه بصلة روحية وصداقة مسيحية، قال ليّ أنه - رحمه الله - كان ينتدب إلى القاهرة ليدرس لطلبة الدراسات العليا، فكان مرات كثيرة يسافر إلى القاهرة ولا يجد الطلبة موجودين لكثرة مشاغلهم أو لعدم إمكانهم الحضور لسبب من الأسباب فكان يعود راجعًا إلى الإسكندرية، وكان يرفض تمامًا أن يتقاضى أجرًا عن هذه الأوقات ...
وكان رئيس القسم يلح عليه أن يكتب هذه الأوقات في الإستمارة ويقول له أنت ذهبت وضيعت الوقت وسافرت وصرفت مصاريف السفر والانتقال للقاهرة ومن حقك أن تتقاضى أجرك لأنه ليس ذنبك أن الطلبة لم يحضروا ... فكان يرفض بإصرار ويقول أن لم أدرس ولم أعط المادة ولم أتعب التعب الذي أتقاضى عنه أجري ... فكان رئيس القسم والأساتذة زملاؤه يتعجبون من مثل هذه الأمانة العجيبة والضمير المدقق الذي عاش به هذا البار . وكان جميع أخوانه وزملائه يذكرونه كمثل للكمال وللخلق الفريد، وكان إذا مدحوه يقول :بل أنا إنسان غلبان؟ أسعى نحو الكمال ولكني لم أدركه بعد .
وقد تأثر بحياته كثيرون من الذين تتلمذوا عليه وكانوا يجاهدون لكي يحيوا مثل هذه الحياة الجذابة التي تفوح منها رائحة المسيح الزكية .
منقول من : ...
المؤلف : جناب القمص/ لوقا سيداروس
الكتاب : رائحة المسيح في حياة أبرار معاصرين
الناشر : كنيسة مارجرجس باسبورتنج
الجزء : الثالث