يروي قدس أبينا/ القمص لوقا سيداروس قائلا : ...
في بكور حياتي الكهنوتية سنة 1967 ... كان يسكن بجوار كنيستنا في اسبورتنج رجل فاضل تقي من أسرة متدينة محبة للمسيح ... وكان له أخ راهب شيخ متقدم في السن ... من رهبان دير البراموس العامر ...
وكان لهذا الأب عادة في شيخوخته أن يزور أخيه الساكن بجوار الكنيسة مرة كل سنة ... يقضي معه بعض الأسابيع ... وكان هذا الأب قد أحنت السنين ظهره، وصار جسده ضعيفا، وحركته بطيئة ... ولكن كان وجهه يسطع بنور النعمة ... كأنه وجه ملاك ...
وكان كل يوم أحد يحضره أخوه إلى الكنيسة باكرا جدا ... وإذ كان لا يقوى على الوقوف ... كان يجلس أمام باب الهيكل ... ووجهه نحو المذبح ... لا يتحرك لمدة ساعات ... عيناه شاخصتان إلى السماء ... شفتاه تتحركان بكلمات الصلاة والألحان بصوت خافت لا يسمعه أحد ... فكان منظره الملائكي يشيع السلام في قلوب الكثيرين ... وكان كثيرون يتلمسون بركته ...
كانت سيرة هذا الأب بين الشيوخ في دير البراموس ... مشهودا لها من الجميع، إذ كان منذ شبابه طاهرا بسيطا محبا متحليا بالوداعة .. كأنه طفل ... وقد زادته سنين العبادة نعمة فوق نعمة ...
كنت كلما أتيحت لي فرصة أذهب لزيارة هذا الأب الطيب في بيت شقيقه ... وقد استرعى انتباهي سلوكه الرهباني المدقق ... وحرصه على خلاص نفسه ...
ففي كل مرة أدخل إليهم ويعلم بوجودي ... يخرج من غرفته ويقابلني ببشاشة عجيبة ... ويرحب بي بمحبة قلبية حقيقية ... ويجلس بجواري يسألني عن أحوالي ... وأطلب منه أن يصلي من أجلي ... ولا تمر دقائق حتى يمد يده إلى مجموعة الكتب التي بجواره ويقدم لي كتابا ويقول لي: أرجوك عزينا بكلام الكتب ...
كانت الكتيبات الصغيرة هي مجموعة من سير القديسين وأقوال الآباء وبستان الرهبان ... مع الكتاب المقدس الذي لا يفارق حياته ... وكانت هذه الكتب منسوخة بخط اليد ومغلفة بأغلفة جلدية ... وكان هذا الأب هو الذي نسخها بيده ...
كانت أحب القصص إليه قصة القديسة مارينا الناسكة ... التي تزيّت بزي الرجال وترهبت ... ولم يكن أحد يعلم من أمرها شيئا ... وكانوا يعزون رقة صوتها إلى النسك الشديد ... ثم إتهمت ظلما بأنها إعتدت على إبنة صاحب فندق ... فطردوها من الدير ... ثم أتى صاحب الفندق بالطفل المولود من إبنته إلى القديسة مارينا إعتقادا منه أنها والد الطفل ... فحملته القديسة وإعتنت به عناية فائقة ... وهي عائشة بلا مأوى ... تنتقل به بين رعاة الغنم ، تطعمه إلى أن شبّ ... وهي تسقيه لبن الإيمان والحياة مع الله والصلاة الدائمة ...
وإذ تشفع الرهبان عنها إلى رئيس الدير ... عاد فقبلها ووضع عليها قوانين صعبة فوق الطاقة ... فاحتملت كل هذا بصبر جميل ... ولم تدافع عن نفسها رغم الظلم الفادح ... حتى تنيحت بسلام ... فإكتشفوا أنها فتاة ... وأنها بريئة من كل ما نسب إليها ... وقد شرفها الله بعمل آيات وعجائب من جسدها بعد نياحتها ...
فكنت أقرأ هذه السيرة الروحانية المؤثرة ... وكان هذا الأب ينصت بسكوت وعمق ... ودموعه تجري على خديه وتنساب بغزارة ... من بداية القراءة حتى نهايتها ...
كان يتملكني العجب ... فالرجل يعرف هذه السيرة ... بل أقول إنه يكاد يحفظها عن ظهر قلب ... بل هو ناسخها بخط يده ... فليست هذه أول مرة يسمعها فيتأثر ... وليس فيها شيء جديد على مسمعه ...
فمن أين يأتيه كل هذا التأثر والدموع ... كيف أن التكرار الكثير لم يتحول إلى روتين !!!
وتأكدت أن الأبرار يكون قلبهم ملتهبا فيهم بالحب الإلهي ... والشوق إلى السمائيات فيهم يزيد لا ينقص ... ونار الروح فيهم تضطرم ولا تخمد !!!
وكنت إذ أنتهي من القارءة والرجل في حالة التأثر العميق ... وقد نضح وقاره وتأثره على المحيطين به ... لم يكن بعد مجال لكلام مهما كان نوعه ... فكنت أجلس صامتا لمدة دقائق ... ثم أنصرف طالبا صلواته عني ...
وقد تعلمت من هذا السلوك الرهباني الأصيل الشيء الكثير ... تعلمت كيف يكون الحرص حتى لا يفقد الانسان حيويته وحساسيته في الروح ... فلا يسمح للبرودة التي في الخارج أن تتسرب إلى داخل قلبه ... وقد تعلمت كيف كان الآباء حريصون على خلاصهم ... فعلاقتهم بالآخرين وإختلاطهم بالناس ومقابلاتهم وزياراتهم كانت لحساب المسيح ...
وتعلمت الحرص على الوقت ... فلا يوجد وقت للضياع والهزل أو للرغي أو الكلام الذي ليس للبنيان ... فكل الوقت وقت مقبول لعمل الروح !!!
منقول من: ...
المؤلف: القمص لوقا سيداروس
الكتاب: رائحة المسيح في حياة أبرار معاصرين
الناشر: كنيسة مارجرجس باسبورتنج
(الجزء 3 صفحة 27 - 30)
في بكور حياتي الكهنوتية سنة 1967 ... كان يسكن بجوار كنيستنا في اسبورتنج رجل فاضل تقي من أسرة متدينة محبة للمسيح ... وكان له أخ راهب شيخ متقدم في السن ... من رهبان دير البراموس العامر ...
وكان لهذا الأب عادة في شيخوخته أن يزور أخيه الساكن بجوار الكنيسة مرة كل سنة ... يقضي معه بعض الأسابيع ... وكان هذا الأب قد أحنت السنين ظهره، وصار جسده ضعيفا، وحركته بطيئة ... ولكن كان وجهه يسطع بنور النعمة ... كأنه وجه ملاك ...
وكان كل يوم أحد يحضره أخوه إلى الكنيسة باكرا جدا ... وإذ كان لا يقوى على الوقوف ... كان يجلس أمام باب الهيكل ... ووجهه نحو المذبح ... لا يتحرك لمدة ساعات ... عيناه شاخصتان إلى السماء ... شفتاه تتحركان بكلمات الصلاة والألحان بصوت خافت لا يسمعه أحد ... فكان منظره الملائكي يشيع السلام في قلوب الكثيرين ... وكان كثيرون يتلمسون بركته ...
كانت سيرة هذا الأب بين الشيوخ في دير البراموس ... مشهودا لها من الجميع، إذ كان منذ شبابه طاهرا بسيطا محبا متحليا بالوداعة .. كأنه طفل ... وقد زادته سنين العبادة نعمة فوق نعمة ...
كنت كلما أتيحت لي فرصة أذهب لزيارة هذا الأب الطيب في بيت شقيقه ... وقد استرعى انتباهي سلوكه الرهباني المدقق ... وحرصه على خلاص نفسه ...
ففي كل مرة أدخل إليهم ويعلم بوجودي ... يخرج من غرفته ويقابلني ببشاشة عجيبة ... ويرحب بي بمحبة قلبية حقيقية ... ويجلس بجواري يسألني عن أحوالي ... وأطلب منه أن يصلي من أجلي ... ولا تمر دقائق حتى يمد يده إلى مجموعة الكتب التي بجواره ويقدم لي كتابا ويقول لي: أرجوك عزينا بكلام الكتب ...
كانت الكتيبات الصغيرة هي مجموعة من سير القديسين وأقوال الآباء وبستان الرهبان ... مع الكتاب المقدس الذي لا يفارق حياته ... وكانت هذه الكتب منسوخة بخط اليد ومغلفة بأغلفة جلدية ... وكان هذا الأب هو الذي نسخها بيده ...
كانت أحب القصص إليه قصة القديسة مارينا الناسكة ... التي تزيّت بزي الرجال وترهبت ... ولم يكن أحد يعلم من أمرها شيئا ... وكانوا يعزون رقة صوتها إلى النسك الشديد ... ثم إتهمت ظلما بأنها إعتدت على إبنة صاحب فندق ... فطردوها من الدير ... ثم أتى صاحب الفندق بالطفل المولود من إبنته إلى القديسة مارينا إعتقادا منه أنها والد الطفل ... فحملته القديسة وإعتنت به عناية فائقة ... وهي عائشة بلا مأوى ... تنتقل به بين رعاة الغنم ، تطعمه إلى أن شبّ ... وهي تسقيه لبن الإيمان والحياة مع الله والصلاة الدائمة ...
وإذ تشفع الرهبان عنها إلى رئيس الدير ... عاد فقبلها ووضع عليها قوانين صعبة فوق الطاقة ... فاحتملت كل هذا بصبر جميل ... ولم تدافع عن نفسها رغم الظلم الفادح ... حتى تنيحت بسلام ... فإكتشفوا أنها فتاة ... وأنها بريئة من كل ما نسب إليها ... وقد شرفها الله بعمل آيات وعجائب من جسدها بعد نياحتها ...
فكنت أقرأ هذه السيرة الروحانية المؤثرة ... وكان هذا الأب ينصت بسكوت وعمق ... ودموعه تجري على خديه وتنساب بغزارة ... من بداية القراءة حتى نهايتها ...
كان يتملكني العجب ... فالرجل يعرف هذه السيرة ... بل أقول إنه يكاد يحفظها عن ظهر قلب ... بل هو ناسخها بخط يده ... فليست هذه أول مرة يسمعها فيتأثر ... وليس فيها شيء جديد على مسمعه ...
فمن أين يأتيه كل هذا التأثر والدموع ... كيف أن التكرار الكثير لم يتحول إلى روتين !!!
وتأكدت أن الأبرار يكون قلبهم ملتهبا فيهم بالحب الإلهي ... والشوق إلى السمائيات فيهم يزيد لا ينقص ... ونار الروح فيهم تضطرم ولا تخمد !!!
وكنت إذ أنتهي من القارءة والرجل في حالة التأثر العميق ... وقد نضح وقاره وتأثره على المحيطين به ... لم يكن بعد مجال لكلام مهما كان نوعه ... فكنت أجلس صامتا لمدة دقائق ... ثم أنصرف طالبا صلواته عني ...
وقد تعلمت من هذا السلوك الرهباني الأصيل الشيء الكثير ... تعلمت كيف يكون الحرص حتى لا يفقد الانسان حيويته وحساسيته في الروح ... فلا يسمح للبرودة التي في الخارج أن تتسرب إلى داخل قلبه ... وقد تعلمت كيف كان الآباء حريصون على خلاصهم ... فعلاقتهم بالآخرين وإختلاطهم بالناس ومقابلاتهم وزياراتهم كانت لحساب المسيح ...
وتعلمت الحرص على الوقت ... فلا يوجد وقت للضياع والهزل أو للرغي أو الكلام الذي ليس للبنيان ... فكل الوقت وقت مقبول لعمل الروح !!!
منقول من: ...
المؤلف: القمص لوقا سيداروس
الكتاب: رائحة المسيح في حياة أبرار معاصرين
الناشر: كنيسة مارجرجس باسبورتنج
(الجزء 3 صفحة 27 - 30)
No comments:
Post a Comment